فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}
يخبر تعالى عن لطفه بيوسف، إذ يسر له من اشتراه في مصر، فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسم فيه الخير والصلاح. ومعنى: {أَكْرِمي مَثْوَاهُ} اجعلي مقامه حسنًا مرضيًا. و (المثوى) محل الثواء، وهو الإقامة.
قال الشهاب: وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه؛ لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة، واتخاذ الفراش ونحوه، فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به. أو (المثوى) مقحم. كما يقال: المقام السامي.
روي أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده، والعناية الربانية تحفه، والنجاح يحوطه، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به ينجحه الله تعالى على يده، فنال حظوة لديه، وأقامه قيمًا على كل ما يملكه، وضاعف تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: كما جعلنا له مثوى كريمًا في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له تصرفًا بالأمر والنهي، ومكانة رفيعة في أرض مصر، ووجاهة في أهلها، ومحبة في قلوبهم، ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضي بيوسف إلى الرياسة العظمى.
{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: لا يُمنع عما يشاء ولا يُنازع فيما يريد. أو على أمر يوسف، أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أن الأمر كله بيده، فيأتون ويذورن زعمًا أن لهم شيئًا من الأمر. أو لا يعلمون لطائف صنعه، وخفايا لطفه.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
هذه الآية كالتي قبلها، تخللت تضاعيف نظم القصة لمعنى بديع، وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف، وثمرات مجاهداته، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته، إذ طوى له المنح في تلك المحن، وذخر له السيادة في تلك العبودية. ومعنى: {بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: زمان اشتداد جسمه وقوته.
قال أبو عبيدة: العرب تقول: بلغ فلان أشده، إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان. و (الحكم) إما الحكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو الحكم بين الناس.
قال الزمخشري: وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تنبيه على أنه كان محسنًا في عمله، متقيًا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه.
وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته، آتاه الله الحكمة في اكتهاله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}.
{الذي اشتراه} مراد منه الذي دفع الثمن فملكه وإن كان لم يتول الاشتراء بنفسه، فإن فعل الاشتراء لا يدل إلاّ على دفع العوض، بحيث إن إسناد الاشتراء لمن يتولى إعطاء الثمن وتسلم المبيع إذا لم يكن هو مالك الثمن ومالك المبيع يكون إسنادًا مجازيًا، ولذلك يكتب الموثّقون في مثل هذا أن شراءه لفلان.
والذي اشترى يوسفَ عليه السّلام رجل اسمه (فوطيفار) رئيس شرط ملك مصر، وهو والي مدينة مصر، ولقّب في هذه السورة بالعزيز، وسيأتي.
ومدينة مصر هي (منفيس) ويقال: (منف) وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم (الهيكسوس) أي الرعاة.
وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط.
وكانت مدينتها (ثيبة أو طيبة)، وهي اليوم خراب وموضعها يسمّى الأقصر، جمع قصر، لأن بها أطلال القصور القديمة، أي الهياكل.
وكانت حكومة مصر العليا أيامئذٍ مستضعفة لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده.
وامرأته تسمّى في كتب العرب (زَلِيخا) بفتح الزاي وكسر اللام وقصر آخره وسماها اليهود (راعيل).
و{من مصر} صفة ل: {الذي اشتراه}.
و{لامرأته} متعلق بـ: {قال} أو بـ: {اشتراه} أو يتنازعه كلا الفعلين، فيكون اشتراه ليهبه لها لتتخذه ولدًا.
وهذا يقتضي أنهما لم يكن لهما ولد.
وامرأته: معناه زوجه، فإن الزوجة يطلق عليها اسم المرأة ويراد منه معنى الزوجة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وامرأته قائمة فضحكت} [سورة هود: 71].
والمثوى: حقيقته المحل الذي يَثوي إليه المرء، أي يرجع إليه.
وتقدم عند قوله تعالى: {قال النار مثواكم} في سورة الأنعام (128).
وهو هنا كناية عن حال الإقامة عندهما لأن المرء يثوَى إلى منزل إقامته.
فالمعنى: اجعلي إقامته عندك كريمة، أي كاملة في نوعها.
أراد أن يجعل الإحسان إليه سببًا في اجتلاب محبته إياهما ونصحه لهما فينفعهما، أو يتخذانه ولدًا فيبرّ بهما وذلك أشد تقريبًا.
ولعله كان آيسًا من ولادة زوجه.
وإنما قال ذلك لحسن تفرّسه في ملامح يوسف عليه السّلام المؤذنة بالكمال، وكيف لا يكون رجلًا ذا فراسة وقد جعله الملك رئيس شرطته، فقد كان الملوك أهل حذر فلا يولون أمورهم غير الأكفاء.
{وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}.
إن أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن كقوله: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا} في سورة البقرة (143) كانت الإشارة إلى التمكين المستفاد من: {مكّنّا ليوسف} تنويهًا بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا أن يشبّه بنفسه على نحو قول النابغة:
والسفاهة كاسمها...

فيكون الكاف في محل نصب على المفعول المطلق.
والتقدير: مكنا ليوسف تمكينًا كذلك التمكين.
وإن أجرينا على ما يحتمله اللفظ كانت لحاصل المذكور آنفًا، وهو ما يفيده عثور السيارة عليه من أنه إنجاء له عجيب الحصول بمصادفة عدم الإسراع بانتشاله من الجب، أي مكنا ليوسف عليه السّلام تمكينًا من صنعنا، مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من: {مكّنّا}.
ونظيره: {كذلك زيّنّا لكل أمةٍ عملهم} في سورة الأنعام (108).
والتمكين في الأرض هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه، فيوسف عليه السّلام بحلوله محل العناية من عزيز مصر قد خُطّ له مستقبل تمكينه من الأرض بالوجه الأتمّ الذي أشير له بقوله تعالى بعد: {وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء} [سورة يوسف: 56]، فما ذكر هنالك هو كردّ العجز على الصدر مما هنا، وهو تمامه.
وعطف على {وكذلك} علة لمعنى مستفاد من الكلام، وهو الإيتاء، تلك العلة هي: {ولنعلّمه من تأويل الأحاديث} لأن الله لما قدّر في سابق علمه أن يجعل يوسف عليه السّلام عالمًا بتأويل الرؤيا وأن يجعله نبيئًا أنجاه من الهلاك، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله.
وتقدم معنى تأويل الأحاديث آنفًا عند ذكر قول أبيه له: {ويعلمك من تأويل الأحاديث} [سورة يوسف: 6] أي تعبير الرؤيا.
وجملة {والله غالب على أمره} معترضة في آخر الكلام، وتذييل، لأن مفهومها عامّ يشمل غَلَب الله إخوةَ يوسف عليه السّلام بإبطال كيدهم، وضمير: {أمره} عائد لاسم الجلالة.
وحرف: {على} بعد مادة الغلب ونحوها يدخل على الشيء الذي يتوقع فيه النزاع، كقولهم: غلبناهم على الماء.
و{أمرُ الله} هو ما قدّره وأراده، فمن سعى إلى عمل يخالف ما أراده الله فحاله كحال المنازع على أن يحقق الأمر الذي أراده ويمنع حصول مراد الله تعالى ولا يكون إلا ما أراده الله تعالى فشأن الله تعالى كحال الغالب لمنازعه.
والمعنى والله متمم ما قدره، ولذلك عقّبه بالاستدراك بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} استدراكًا على ما يقتضيه هذا الحكم من كونه حقيقة ثابتة شأنها أن لا تجعل لأن عليها شواهد من أحوال الحدثان، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك مع ظهوره.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}
هذا إخبار عن اصطفاء يوسف عليه السّلام للنبوءة.
ذكر هنا في ذكر مبدأ حلوله بمصر لمناسبة ذكر منّة الله عليه بتمكينه في الأرض وتعليمه تأويل الأحاديث.
والأشدُّ: القوة.
وفسر ببلوغه ما بين خمس وثلاثين سنة إلى أربعين.
والحكم والحكمة مترادفان، وهو: علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده.
وأريد به هنا النبوءة كما في قوله تعالى في ذكر داود وسليمان عليهما السّلام: {وكلًا آتينا حكمًا وعلمًا} [سورة الأنبياء: 79].
والمراد بالعلم علم زائد على النبوءة.
وتنكير {علمًا} للنوعية، أو للتعظيم.
والمراد: علم تعبير الرؤيا، كما سيأتي في قوله تعالى عنه: {ذلكما ممّا علّمني ربي} [سورة يوسف: 37].
وقال فخر الدين: الحكم: الحكمةُ العملية لأنها حكمٌ على هدى النفس.
والعلمُ: الحكمةُ النظرية.
والقول في {وكذلك نجزي المحسنين} كالقول في نظيره، وتقدم عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا} في سورة البقرة (143).
وفي ذكر {المحسنين} إيماء إلى أنّ إحسانه هو سبب جزائه بتلك النعمة.
وفي هذا الذي دبّره الله تعالى تصريح بآية من الآيات التي كانت في يوسف عليه السّلام وإخوته. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}
وكان للشراء عِلَّة؛ فهو قد اشتراه لامرأته ليقوم بخدمتها، وكانت لا تنجب وتكثر في الإلحاح عليه في طلب العلاج، وتقول أغلب السير: إن من اشتراه كان ضعيفًا من ناحية رغبته في النساء.
وهذه اللقطة تبين لنا الفساد الذي ينشأ في البيوت التي تتبنى طفلًا، لكنهم لا يحسبون حساب المسألة حين يبلغ هذا الطفل مبلغ الرجال، وقد تعوَّد أن تحمله ربة البيت وتُقبِّله، وتغدق عليه من التدليل ما يصعب عليها أن تمتنع عنه؛ ولأن الطفل يكبر انسيابيًا؛ فقد يقع المحظور وندخل في متاهة الخطيئة.
ويقول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21].
وهذا يعني أن تعتني بالمكان الذي سيقيم فيه، وبطبيعة الحال فهذا القول يقتضي أن تعتني بالولد نفسه؛ على رجاء أن ينتفع به الرجل وزوجته.